الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة انطلاقا من يوم 5 ديسمبر في القاعات: فيلم "لقشة من الدنيا" لنصر الدين السهيلي أو حياة بلون الغرق...

نشر في  21 نوفمبر 2018  (10:34)

 مقالات وتعاليق عديدة كُتبت حول فيلم "لقشة من الدنيا" لنصر الدين السهيلي الذي شارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية 2018، وقد أثنت هذه الكتابات في مجملها على موضوع الفيلم الذي سلّط الضوء على حياة فئة من المهمشين من المجتمع التونسي. اذ توقفت كاميرا السهيلي عند العلاقة العاطفية التي جمعت شابان (رزوقة وفانتا) اتخذا من خربة بباب الجديد سقفا لهما.. شابان يعيشان على الهامش، في قلب المدينة لكن على هامش التركيبة الاجتماعية المتعارف عليها: حياة عُجنت بطين الفاقة وبمياه العنف وغبار الادمان.

وفي هذا السياق، عمل نصر الدين السهيلي على سرد -أو بالأحرى توثيق- قصّة من الهامش التونسي بكل ما فيها من ضياع وجودي ومن تداخل بين العنف والرغبة والادمان والمثلية. صورة لا يريد العديد منا لا رؤيتها ولا حتى الاعتراف بها، اذ تأتي على طرف نقيض منّ الصورة التي يُراد تسويقها لمجتمعنا حتى ان احدى المتفرجات قالت عندما كانت بصدد مغادرة العرض الثاني للفيلم -الذي احتضنته قاعة الاوبرا بمدينة الثقافة، انه كان على المخرج أن "يُنظف" العالم الذي نقله بتعلة أنه صادم وبشع وليس جديرا بالكشف.

وقد استوقفتنا في فيلم "لقشة من الدنيا" المقاربة السينمائية التي اعتمدها السهيلي في تعامله مع شخصياته، فلم تكن تلك العلاقة الثنائية بين مخرج من جهة وممثلين من جهة أخرى بل انصهر المخرج وكاميراه -ما عدا بعض المشاهد القليلة جدا التي خاطب فيها بطلا القصة مباشرة السهيلي- في محيطهما المباشر ليكون عنصرا من الديكور الذي يصوّر فيه، وهو العامل الذي سمح برصد عفوية وحميمية ما. حميمية الكيانات التي تتدافع فيما بينها، التي يحركها عنفوان العاطفة وما يدور في تخومها من انهيارات وتسلط ونفحات وخيبات. هكذا نقلها السهيلي على فطرتها بدون صنصرة أو رتوش.

وقد توفقت كاميرا السهيلي في أن تكون في مرمى التجاذب (التقارب والتنافر) الحاصل بين الشخصيتين، وفي قلب العنف المسلط وما ينجر عنه من خوف وتوجس وألم. وتعددت في هذا السياق المشاهد التي يظهر فيها الثنائي رزوقة وفانتا بصدد العراك أو بصدد الاستحمام أو حلق الذقن والابطين أو التدليك أو حقن مادة السوبيتاكس المخدرة عاكسة حجم الضغط الذي يمكن أن يتضمنه هذا الموقف أو ذاك. مع الإشارة الى دور المونتاج الذي أمّنه أنس السعدي -حصد جائزة اتحاد الشغل لأفضل تقني في اطار الجوائز الموازية التي تمنحها أيام قرطاج السينمائية- والذي عكس المناخات التي يعيش فيها البطلان.

 في ذاك "المربع الحياتي" الضيق الذي جمع الثنائي رزوقة وفانتا، دارت الكاميرا مرارا في عدمية المكان والكيانات لتروي تفاصيل من "لقشة" مرّة وموجعة قبل أن تتوقف عند تفصيل فارق ألا وهو الجسد والذي بدا كتلك المساحة المترامية الأطراف التي تتحدى محدودية المكان. فلمسة حب يتيمة يمكن أن تفتح باب الشهوات اللامتناهية، وحقنة في الساعد تهدي النيرفانا، وطبطبة بسيطة على خدّ محلوق تُحفز العزيمة. يفتح الجسد في فيلم "لقشة من الدنيا" أبوابا ومنافذ غير منتظرة، وهو بمثابة جسر الخلاص الذي يسمح بالتحليق في فضاءات مغايرة رغم كل ما سُلط عليه من تضييق.

طيلة 4 سنوات، وهي الفترة التي تم فيها تصوير الفيلم بطريقة متقطعة، ظلّ السهيلي وفيا لتيمته وظلت كاميراه تشبه الشخصيات التي تصورها. فقد جاءت الصورة مُحملة بظلال المكان، غير مُكتملة في أحيان أخرى، تحمل بين طياتها غبش وضبابية من يعيشون في الهامش بعيدا عن أضواء المدينة.

ومن بين المشاهد التي طوّع فيها المخرج كاميراه تماهيا مع شخصياته بصفة خاصة نذكر اللقطات العصفورية (plans en plongée)، التي ظهر فيها لطفي -شُهر فانتا- أسفل مجهر الكاميرا لتبان مكانته الاجتماعية الدنيا التي لا يتمتع فيها بأبسط حقوقه، فلا بطاقة هوية ولا مسكن لائق ولا عمل قار. وكذلك اللقطة الكبيرة التي ظهر فيها وجه فانتا على كبر الشاشة، وجه آدمي-غريزي منحوت بوجع الذات الحبيسة والمرض الداهم  وكمٍ من الأحلام البسيطة حول الحب والزواج والفرح.

ملاحظة أخرى يمكن أن نسوقها تتعلق بتأطير اللقطات حيث اولى السهيلي هذه النقطة أهمية قصوى أحيانا من خلال الكاميرا المحمولة التي تسمح بنسف المسافات وبالتفاعل المباشر واللصيق مع حيثيات الفيلم أو من خلال الكاميرا الثابتة التي تتحكم في مشهدها دون تعسف.

حياة على صفيح موجع نقلتها كاميرا السهيلي في فيلم "لقشة من الدنيا".  102 دقيقة اختزلت العلاقة الحبيّة التي جمعت تونسيان من الهامش، علاقة بلون الغرق، بلون ذلك الوجع الأزرق الذي يسكن كيانات المفقرين منا. مشاهد على الحافة، عنيفة وحيّة وفجّة حتى نعي حجم الدمار الساكن فينا.

-يُعرض فيلم "لقشة من الدنيا" في قاعات السينما انطلاقا من يوم الاربعاء 5 ديسمبر 2018.

شيراز بن مراد